فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت: يومًا لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان بينهم من الفتن فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم فقلت له: في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ فقال: سبحان الله الا تقرأ قوله تعالى: {والسابقون الأولون} الآية فتعلم أنه تعالى أوجب لجيمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطًا قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: شرط عليهم أن يتبعوهم باحسان وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو يقال: هو أن يتبعوهم بإحسان في القول وان لا يقولوا فيهم سوءًا وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه، قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط، وعلى هذا تكون الآية متضمنة من فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما لم تتضمنه على التقدير الأول.
واعترض القطب على التفاسير السابقة للسابقين من المهاجرين بأن الصلاة إلى القبلتين وشهود بدر وبيعة الرضوان مشتركة بين المهاجرين والأنصار.
وأجيب بأن مراد من فسر تعيين سبقهم لصحبتهم ومهاجرتهم له صلى الله عليه وسلم على من عداهم من ذلك القبيل.
واختار الإمام أن المراد بالسابقين من المهاجرين السابقون في الهجرة ومن السابقين من الأنصار السابقون في النصرة وادعى أن ذلك هو الصحيح عنده، واستد عليه بأنه سبحانه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيما ذا فبقى اللفظ مجملًا إلا أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا علم أن المراد من السبق السبق في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ، وأيضًا كل واحدة من الهجرة والنصرة لكونه فعلًا شاقًا على النفس طاعة عظيمة فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره الشريف عليه الصلاة والسلام فلذلك أثني الله تعالى على كل من كان سابقًا إليهما وأثبت لهم ما أثبت، وكيف لا وهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوى الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين بإسلامهم وقوى قلبه صلى الله عليه وسلم بسبب دخولهم في الإسلام واقتداء غيرهم بهم فكان حالهم في ذلك كحال من سن سنه حسنة؛ وفي الخبر «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ولا يخفى أنه حسن.
ويجوز عندي أن يراد بالسابقين الذين سبقوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر واتخاذ ما ينفقون قربات والقرينة على ذلك ظاهرة، وأيامًا كان فالسابقون مبتدأ خبره قوله تعالى: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} أي بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بما نالوه من النعم الجليلة الشأن.
وجوز أبو البقاء أن يكون الخبر {الأولون} أو {مِنَ المهاجرين} وأن يكون {السابقون} معطوفًا على {مَن يُؤْمِنُ} [التوبة: 99] أي ومنهم السابقون وما ذكرناه أظهر الوجوه.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه انه قرأ {والانصار} بالرفع على أنه معطوف على السابقون.
وأخرج أبو عبيدة وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يقرأ بأسقاط الواو من {والذين اتبعوهم} فيكون الموصول صفة الأنصار جنى قال له زيد: إنه بالواو فقال ائتوني بأبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال: هي بالواو فتابعه.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي أسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي قالا: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ {والذين} بالواو فقال: من أقرأك هذه؟ فقال: أبي فأخذ به إليه فقال: يا أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هكذا قال أبي: صدق وقد تلقنتها كذلك من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أنت تلقنتها كذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم فأعاد عليه فقال في الثالثة وهو غضبان: نعم والله لقد أنزلها الله على جبريل عليه السلام وأنزلها جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه فخرج عمر رافعًا يديه وهو يقول الله أكبر الله أكبر.
وفي رواية أخرجها أبو اأبي شيخ أيضًا عن محمد بن كعب أن أبيًا رضي الله تعالى عنه: تصديق هذه الآية في أول الجمعة.
{وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ} [الجمعة: 3] وفي أوسط الحشر {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وفي آخر الأنفال {والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ} [الأنفال: 75] الخ، ومراده رضي الله تعالى عنه أن هذه الآيات تدل على أن التابعين غير الأنصار، وفيها أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا وأراد اختصاص السبق بالمهاجرين، وظاهر تقديم المهاجرين على الأنصار مشعر بأنهم أفضل منهم وهو الذي يدل عليه قصة السقيفة، وقد جاء في فضل الأنصار ما لا يحصى من الأخبار.
ومن ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار».
وأخرج الطبراني عن السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الفيء الذي أفاء الله تعالى بحنين في أهل مكة من قريش وغيرهم فغضب الأنصار فأتاهم فقال: «يا معشر الأنصار قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناسًا أتألفهم على الإسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله تعالى قلوبهم الإسلام ثم قال: يا معشر الأنصار ألم يمن الله تعالى عليكم بالإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء أنصار الله تعالى وأنصار رسوله عليه الصلاة والسلام ولولا الهجرة لكنت أمرءًا من الأنصار ولو سلك الناس واديًا وسلكتم واديًا لسلكت واديكم أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم البعير والشاء وتذهبون برسول الله؟» فقالوا: رضينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجيبوني فيما قلت».
قالوا: يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور، وجدتنا على شفا حفرة من النار فانقذنا الله بك، وجدتنا ضلالًا فهدانا الله تعالى بك فرضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، فقال عليه الصلاة والسلام: «لو أجبتموني بغير هذا القول لقلت: صدقتم لو قلتم ألم تأتنا طريدا فآويناك؟ ومكذبا فصدقناك؟ ومخذولا فنصرناك وقبلنا ما رد الناس عليك لصدقتم»، قالوا: بل لله تعالى ولرسوله المن والفضل علينا وعلى غيرنا فانظر كيف قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف أجابوه رضي الله تعالى عنهم {وَأَعَدَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} أي هيأ لهم ذلك في الآخرة.
وقرأ ابن كثير {مِن تَحْتِهَا} وأكثر ما جاء في القرآن موافق لهذه القراءة {خالدين فِيهَا أَبَدًا} من غير انتهاء {ذلك الفوز العظيم} أي الذي لا فوز وراءه، وما في ذلك من معنى البعد قيل لبيان بعد منزلتهم في الفضل وعظم الدرجة من مؤمني الأعراب، ولا يخفى أن هذا لا يكاد يصح إلا بتكلف ما إذا أريد من الذين اتبعوهم صنف آخر غير الصحابة لأن الظاهر أن مؤمني الأعراب صحابة ولا يفضل غير صحابي صحابيًا كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وقوله صلى الله عليه وسلم: «أمتى كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره» من باب المبالغة. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} أي: ممن تقدم بالهجرة والنصرة. وقيل: عني بالفريق الأول من صلى إلى القبلتين، أو من شهد بدرًا، أو من أسلم قبل الهجرة وبالثاني أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية، وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير، فعلمهم القرآن.
واختار الرازي الوجه الأول، وقال: والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون فلماذا؟
فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه: {السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} في الهجرة والنصرة، إزالة للإجمال عن اللفظ.
وأيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة، من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا، صار قدوة لغيره في هذه الطاعة، وكان ذلك مقوّيًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم.
وقرئ {الأنصارُ} بالرفع، عطفًا على السابقون.
{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} أي: سلكوا سبيلهم بالإيمان والطاعة {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة.
والنصرة منقبة شريفة، لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم- قاله المهايمي-.
{وَرَضُوا عَنْهُ} بما وفقهم إليه من الإيمان والإحسان، وما آتاهم من الثواب والكرامة {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} وذلك بدل ما تركوا من دورهم وأهليهم، وبدل ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم، ولغرسهم جنات القرب في قلوبهم، وإجرائهم أنهار المعارف في قلوبهم وقلوب من اتبعوهم بهذه الهجرة والنصرة والإحسان- قاله المهايمي-.
وقرأ ابن كثير: {مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} كما هو في سائر المواضع.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} لتخليدهم هذا الدين بإقامة دلائله، وتأسيس قواعده، إلى يوم القيامة، والعمل بمقتضاه، واختيار الباقي على الفاني {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: الذي لا فوز وراءه.
تنبيهات:
الأول: قال في الإكليل: في هذه الآية تفضيل السابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.
الثاني: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فمن بيانية لتقدمهم على من عداهم.
وقيل: بعضهم- وهم قدماء الصحابة- ومن تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم على ما ذكرناه أولًا، ورأى آخرون الأول.
روي عن حميد بن زياد قال: قلت يومًا لمحمد بن كعب القرظي: ألا تخبرني عن الصحابة فيما كان بينهم؟ وأرد الفتن- فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم.
قلت له: {والسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ} الآية، فأوجب للجميع الجنة والرضوان، وشرط على تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسنًا لا سوءًا.
أي: لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ}.
الثالث: قال الشهاب: تقديم المهاجرين لفضلهم على الأنصار كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه، لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} عُقِّب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذِي مُتطلب الصلاح حذوَهم، ولئلا يخلوَ تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحَواليها وبَواديها، عن ذكر أفضل الأقسام تنويهًا به.
وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها.
فالجملة عطف على جملة: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا} [التوبة: 98].
والمقصود بالسبق السبق في الإيمان، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين، والكفار الصرحاء، والكفار المنافقين؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجِر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية.
وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معًا، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة: من صلى القبلتين.
وقال عطاء: من شهد بدرًا.
وقال الشعبي: من أدركوا بيعة الرضوان.